فصل: تفسير الآية رقم (59)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآية رقم ‏[‏59‏]‏

‏{‏إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ‏(‏59‏)‏‏}‏

لما ذُكر ما يشير إلى قصة جدال ابن الزبعرى في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنكم وما تعبدون من دون الله حصَب جهنم‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 98‏]‏، وكان سبب جداله هو أن عيسى قد عُبِد من دون الله لم يترك الكلام ينقضي دون أن يردف بتقرير عبودية عيسى لهذه المناسبة، إظهاراً لخطل رأي الذين ادعوا إلهايته وعبدوه وهم النصارى حرصاً على الاستدلال للحق‏.‏

وقد قُصِر عيسى على العبودية على طريقة قصر القلب للرد على الذين زعموه إلها، أي ما هو إلا عبد لا إله لأن الإلهية تنافي العبودية‏.‏ ثم كان قوله‏:‏ ‏{‏أنعمنا عليه‏}‏ إشارة إلى أنه قد فُضل بنعمة الرسالة، أي فليست له خصوصيةُ مزيةٍ على بقية الرسل، وليس تكوينه بدون أب إلاّ إرهاصاً‏.‏

وأما قوله‏:‏ ‏{‏وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل‏}‏ فهو إبطال لشبهة الذين ألَّهوه بتوهمهم أن كونه خُلِق بكلمة من الله يفيد أنه جزء من الله فهو حقيق بالإلهية، أي كان خلقه في بطن أمه دون أن يَقرَبَها ذكر ليكون عبرة عجيبة في بني إسرائيل لأنهم كانوا قد ضعف إيمانهم بالغيب وبعُد عهدهم بإرسال الرّسل فبعث الله عيسى مجدّداً للإيمان بينهم، ومبرهِناً بمعجزاته على عظم قدرة الله، ومعيداً لتشريف الله بني إسرائيل إذ جعل فيهم أنبياء ليكون ذلك سبباً لقوة الإيمان فيهم، ومُظهراً لفضيلة أهل الفضل الذين آمنوا به ولعناد الذين منعهم الدفع عن حرمتهم من الاعتراف بمعجزاته فناصبوه العداء وسَعَوْا للتنكيل به وقتلِه فعصمه الله منهم ورفعَه من بينهم فاهتدى به أقوام وافتتن به آخرون‏.‏ فالمثَل هنا بمعنى العِبرة كالذي في قوله آنفاً ‏{‏فجعلناهم سلفاً ومثلاً للآخرين‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 56‏]‏‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏لبني إسرائيل‏}‏ إشارة إلى أن عيسى لم يُبعث إلا إلى بني إسرائيل وأنه لم يَدْعُ غير بني إسرائيل إلى اتّباع دينه، ومن اتبعوه من غير بني إسرائيل في عصور الكفر والشرك فإنما تقلدوا دعوته لأنها تنقذهم من ظلمات الشرك والوثنية والتعطيل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

‏{‏وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ ‏(‏60‏)‏‏}‏

لما أشارت الآية السابقة إلى إبطال ضلالة الذين زعموا عيسى عليه السلام ابناً لله تعالى، من قَصره على كونه عبداً لله أنعم الله عليه بالرسالة وأنه عبرة لبني إسرائيل عُقب ذلك بإبطال ما يماثل تلك الضلالة، وهي ضلالة بعض المشركين في ادعاء بنوة الملائكة لله تعالى المتقدم حكايتها في قوله‏:‏ ‏{‏وجَعَلوا له من عباده جُزءاً‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 15‏]‏ الآيات فأشير إلى أن الملائكة عباد لله تعالى جعَل مكانهم العوالم العليا، وأنه لو شاء لجعلهم من سكان الأرض بدلاً عن الناس، أي أن كونهم من أهل العوالم العليا لم يكن واجباً لهم بالذات وما هو إلا وضعٌ بجعل من الله تعالى كما جعل للأرض سكاناً، ولو شاء الله لعكس فجعل الملائكة في الأرض بدلاً عن الناس، فليس تشريف الله إياهم بسكنى العوالم العليا بموجب بُنوتهم لله ولا بمقتضضٍ لهم إلهية، كما لم يكن تشريف عيسى بنعمة الرسالة ولا تمييزُه بالتكوّن من دون أب مقتضياً له إلهاية وإنما هو بجعل الله وخلقه‏.‏

وجُعِل شرط ‏{‏لو‏}‏ فعلاً مستقبلاً للدلالة على أن هذه المشيئة لم تزل ممكنة بأن يعوِّض للملائكة سكنى الأرض‏.‏

ومعنى ‏(‏مِن‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏منكم‏}‏ البدلية والعِوَض كالتي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أرَضِيتُم بالحياة الدنيا مِنَ الآخرة‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 38‏]‏‏.‏

والمجرور متعلق ب ‏(‏جعلنا‏)‏، وقُدّم على مفعول الفعل للاهتمام بمعنى هذه البَدَلية لتتعمق أفهام السامعين في تدبرها‏.‏

وجملة ‏{‏في الأرض يخلفون‏}‏ بيان لمضمون شبه الجملة إلى قوله‏:‏ ‏{‏منكم‏}‏ وحذف مفعول ‏{‏يخلفون‏}‏ لدلالة ‏{‏منكم‏}‏ عليه، وتقديم هذا المجرور للاهتمام بما هو أدل على كون الجملة بياناً لمضمون ‏{‏منكم‏}‏‏.‏ وهذا هو الوجه في معنى الآية وعليه درج المحققون‏.‏ ومحاولة صاحب «الكشاف» حمل ‏{‏منكم‏}‏ على معنى الابتدائية والاتصال لا يلاقي سياق الآيات‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏61‏]‏

‏{‏وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ‏(‏61‏)‏‏}‏

‏{‏يَخْلُفُونَ * وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا واتبعون هذا‏}‏‏.‏

الأظهر أن هذا عطف على جملة ‏{‏وإنه لذكرٌ لك ولقومك‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 44‏]‏ ويكون ما بينهما مستطردات واعتراضاً اقتضته المناسبة‏.‏

لمّا أشبع مقام إبطال إلهية غير الله بدلائل الوحدانية ثُني العِنان إلى إثبات أن القرآن حق، عوداً على بدْءٍ‏.‏ وهذا كلام موجه من جانب الله تعالى إلى المنكرين يوم البعث، ويجوز أن يكون من كلام النبي صلى الله عليه وسلم

وضمير المذكر الغائب في قوله‏:‏ ‏{‏وإنه لعلم للساعة‏}‏ مراد به القرآن وبذلك فسَّرَهُ الحسن وقتادة وسعيد بن جبير فيكون هذا ثناء ثامناً على القرآن، فالثناء على القرآن استمرّ متصلاً من أول السورة آخذاً بعضه بحُجز بعض متخلَّلاً بالمعترضات والمستطردات ومتخلصاً إلى هذا الثناء الأخير بأن القرآن أعلم الناس بوقوع الساعة‏.‏

ويفسره ما تقدم من قوله‏:‏ ‏{‏بالذي أُوحي إليك‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 43‏]‏ ويبينه قوله بعده ‏{‏هذا صراط مستقيم‏}‏، على أن ورود مثل هذا الضمير في القرآن مراداً به القرآن كثير معلوم من غير معاد فضلاً على وجود معاده‏.‏

ومعنى تحقيق أن القرآن عِلْم للساعة أنه جاء بالدين الخاتم للشرائع فلم يبق بعد مجيء القرآن إلا انتظار انتهاء العالم‏.‏ وهذا معنَى ما روي من قول الرسول صلى الله عليه وسلم «بُعِثتُ أنا والساعة كهاتين، وقرن بين السبابة والوسطى مشيراً إليهما» والمشابهة في عدم الفصل بينهما‏.‏

وإسناد ‏{‏عِلمٌ للساعة‏}‏ إلى ضمير القرآن إسناد مجازيّ لأن القرآن سبب العلم بوقوع الساعة إذ فيه الدلائل المتنوعة على إمكان البعث ووقوعه‏.‏ ويجوز أن يكون إطلاق العلم بمعنى المُعْلِم، من استعمال المصدر بمعنى اسم الفاعل مبالغة في كونه محصلاً للعلم بالساعة إذ لم يقاربه في ذلك كتاب من كتب الأنبياء‏.‏

وقد ناسب هذا المجازَ أو المبالغة التفريع في قوله‏:‏ ‏{‏فلا تمترن بها‏}‏ لأن القرآن لم يُبققِ لأحدٍ مِرية في أن البعث واقع‏.‏ وعن ابن عباس ومجاهد وقتادة أن الضمير لعيسى، وتأولوه بأن نزول عيسى علامة الساعة، أي سبب علم بالساعة، أي بقربها، وهو تأويل بعيد فإن تقدير مضاف وهو نزول لا دليل عليه ويناكده إظهار اسم عيسى في قوله‏:‏ ‏{‏ولما جاء عيسى‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 63‏]‏ الخ‏.‏ ويجوز عندي أن يكون ضمير ‏{‏إنه‏}‏ ضميرَ شأن، أي أن الأمر المهمّ لَعِلم الناسسِ بوقوع الساعة‏.‏

وعُدّي فعل ‏{‏فلا تمترن بها‏}‏ بالباء لتضمينه معنى‏:‏ لا تُكذبُن بها، أو الباء بمعنى ‏(‏في‏)‏ الظرفية‏.‏

‏{‏بِهَا واتبعون هذا صراط‏}‏‏.‏

يجوز أن يكون ضمير المتكلم عائداً إلى الله تعالى، أي اتبعوا ما أرسلتُ إليكم من كلامي وَرَسُولِي، جرياً على غالب الضمائر من أول السورة كما تقدم، فالمراد باتّباع الله‏:‏ اتباع أمره ونهيه وإرشادِه الوارد على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتّباع الله تمثيل لامتثالهم ما دعاهم إليه بأن شبه حال الممتثلين أمر الله بحال السالكين صراطاً دلّهم عليه دليل‏.‏

ويكون هذا كقوله في سورة الشورى ‏(‏52، 53‏)‏ ‏{‏وإنك لتهدي إلى صراطٍ مستقيم صراطِ الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض‏}‏ ويجوز أن يكون عائداً إلى النبي بتقدير‏:‏ وقُل اتبعون، ومثله في القرآن كثير‏.‏

والإشارة في هذا صراط مستقيم‏}‏ للقرآن المتقدم ذكره في قوله‏:‏ ‏{‏وإنه لعلم للساعة‏}‏ أو الإشارة إلى ما هو حاضر في الأذهان مما نزل من القرآن أو الإشارة إلى دين الإسلام المعلوم من المقام كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأنَّ هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 153‏]‏‏.‏

وحذفت ياء المتكلم تخفيفاً مع بقاء نون الوقاية دليلاً عليها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏62‏]‏

‏{‏وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ‏(‏62‏)‏‏}‏

لما أُبلغت أسماعُهم أفانينَ المواعظ والأوامر والنواهي، وجرى في خلال ذلك تحذيرهم من الإصرار على الإعراض عن القرآن، وإعلامُهم بأن ذلك يفضي بهم إلى مقارنة الشيطان، وأخذَ ذلك حظه من البيان انتقل الكلام إلى نهيهم عن أن يحصل صدّ الشيطان إياهم عن هذا الدّين والقرآن الذي دُعوا إلى اتّباعه بقوله‏:‏ ‏{‏واتبعون هذا صراط مستقيم‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 61‏]‏ تنبيهاً على أن الصدود عن هذا الدّين من وسوسة الشيطان، وتذكيراً بعداوة الشيطان للإنسان عداوة قوية لا يفارقها الدفع بالناس إلى مساوئ الأعمال ليوقعهم في العذاب تشفّياً لعداوته‏.‏

وقد صيغ النهي عن اتباع الشيطان في صدّه إياهم بصيغة نهي الشيطان عن أن يصدهم، للإشارة إلى أن في مكنتهم الاحتفاظ من الارتباق في شباك الشيطان، فكني بنهي الشيطان عن صدّهم عن نَهْيهِمْ عن الطاعة له بأبلغَ من توجيه النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، على طريقة قول العرب‏:‏ لا أعْرِفنَّك تفعل كذا، ولا أُلْفِينَّكَ في موضع كذا‏.‏

وجملة ‏{‏إنه لكم عدو مبين‏}‏ تعليل للنهي عن أن يصدهم الشيطان فإن شأن العاقل أن يحذر من مكائد عدوه‏.‏ وعداوة الشيطان للبشر ناشئة من خبث كينونته مع ما انضمّ إلى ذلك الخبث من تنافي العنصرين فإذا التقى التنافي مع خبث الطبع نشأ من مجموعهما القصد بالأذى، وقد أذكى تلك العداوةَ حدث قارن نشأة نوع الإنسان عند تكوينه، في قصته مع آدم كما قصه القرآن غير مرة‏.‏ وحرف ‏(‏إنَّ‏)‏ هنا موقعه موقع فاء التسبب في إفادة التعليل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏63- 64‏]‏

‏{‏وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ‏(‏63‏)‏ إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ‏(‏64‏)‏‏}‏

قد علمت آنفاً أن هذا هو المقصود من ذكر عيسى عليه السلام فهو عطف على قصة إرسال موسى‏.‏

ولم يذكر جواب ‏{‏لمّا‏}‏ فهو محذوف لدلالة بقية الكلام عليه‏.‏ وموقع حرف ‏{‏لمّا‏}‏ هنا أن مجيء عيسى بالبينات صار معلوماً للسامع مما تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلاً لبني إسرائيل‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 59‏]‏ الآية، أي لما جاءهم عيسى اختلف الأحزاب فيما جاء به، فحذف جواب ‏{‏لما‏}‏ لأن المقصود هو قوله‏:‏ ‏{‏فويلٌ للذين ظلموا من عذاب يوممٍ أليمٍ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 65‏]‏ لأنه يفيد أن سَنن الأمم المبعوث إليهم الرسل لم يختلف فإنه لم يخل رسول عن قوم آمنوا به وقوممٍ كذبوه ثم كانوا سواءً في نسبة الشركاء في الإلهية بمزاعم النصارى أن عيسى ابن لله تعالى كما أشار إليه قوله‏:‏ ‏{‏فويل للذين ظلموا‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 65‏]‏ أي أشركوا كما هو اصطلاح القرآن غالباً‏.‏ فتم التشابه بين الرسل السابقين وبين محمد صلى الله عليهم أجمعين، فحصل في الكلام إيجاز تدل عليه فاء التفريع‏.‏

وفي قصة عيسى مع قومه تنبيه على أن الإشراك من عوارض أهل الضلالة لا يلبث أن يخامر نفوسهم وإن لم يكن عالقاً بها من قبل، فإن عيس بُعث إلى قوم لم يكونوا يدينون بالشرك إذ هو قد بعث لبني إسرائيل وكلهم موحّدونَ فلما اختلف أتباعه بينهم وكذبت به فِرق وصدقه فريق ثم لم يتبعوا ما أمرهم به لم يلبثوا أن حدثت فيهم نحلة الإشراك‏.‏

وجملة قال قد جئتكم بالحكمة‏}‏ مُبَيّنَةٌ لجملة ‏{‏جاء عيسى بالبينات‏}‏ وليست جواباً لشرط ‏{‏لما‏}‏ الذي جعل التفريع في قوله‏:‏ ‏{‏فاختلف الأحزاب من بينهم‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 37‏]‏ دَليلاً عليه‏.‏ وفي إيقاع جملة ‏{‏قد جئتكم بالحكمة‏}‏ بياناً لجملة ‏{‏جاء عيسى بالبينات‏}‏ إيماء إلى أنه بادَأهم بهذا القول، لأن شأن أهل الضلالة أن يسرعوا إلى غاياتها ولو كانت مبادئ الدعوة تنافي عقائدهم، أي لم يَدْعُهم عيسى إلى أكثر من اتباع الحكمة وبيان المختلَف فيه ولم يدْعهم إلى ما ينافي أصول شريعة التوراة ومع ذلك لم يخل حاله من صدود مريع عنه وتكذيب‏.‏

وابتداؤه بإعلامهم أنه جاءهم بالحكمة والبيان وهو إجمال حال رسالته ترغيبٌ لهم في وعْي ما سيلقيه إليهم من تفاصيل الدعوة المفرع بعضها على هذه المقدمة بقوله‏:‏ ‏{‏فاتقوا الله وأطيعون إن الله هو ربّي وربّكم فاعبدوه‏}‏‏.‏

والحكمة هي معرفة ما يؤدي إلى الحسن ويكفّ عن القبيح وهي هنا النبوءة، وقد تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يؤتي الحكمة من يشاء‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏269‏)‏‏.‏ وقد جاء عيسى بتعليمهم حقائق من الأخلاق الفاضلة والمواعظ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ولِأبيّنَ لكم‏}‏، عطف على ‏{‏بالحكمة‏}‏ لأن كليهما متعلّق بفعل ‏{‏جئتكم‏}‏‏.‏ واللام للتعليل‏.‏ والتبيين‏:‏ تجلية المعاني الخفيّة لِغموض أو سوء تأويل، والمراد ما بيّنه عيسى في الإنجيل وغيره مما اختلفت فيه أفهام اليهود من الأحكام المتعلقة بفهم التوراة أو بتعيين الأحكام للحوادث الطارئة‏.‏

ولم يذكر في هذه الآية قوله المحكي في آية سورة آل عمران ‏(‏50‏)‏ ‏{‏ولأحِلّ لكم بعضَ الذي حرّم عليكم‏}‏ لأن ذلك قد قاله في مقام آخر‏.‏

والمقصود حكاية ما قاله لهم مما ليس شأنه أن يثير عليه قومه بالتكذيب فهم كذبوه في وقت لم يذكر لهم فيه أنه جاء بنسخ بعض الأحكام من التوراة، أي كذبوه في حال ظهور آيات صدقه بالمعجزات وفي حال انتفاء ما من شأنه أن يثير عليه شكاً‏.‏ وإنما قال‏:‏ ‏{‏بعض الذي تختلفون فيه‏}‏، إمّا لأن الله أعلمه بأن المصلحة لم تتعلق ببيان كل ما اختلفوا فيه بل يقتصر على البعض ثم يُكَمَّل بيان الباقي على لسان رسول يأتي من بعده يبيّن جميع ما يَحتاج إلى البيان‏.‏ وإما لأنّ ما أُوحي إليه من البيان غيرُ شامل لجميع ما هم مختلفون في حكمه وهو ينتظر بيانه من بعدُ تدريجاً في التشريع كما وقع في تدريج تحريم الخمر في الإسلام‏.‏

وقيل‏:‏ المراد ب ‏{‏بعض الذي تختلفون فيه‏}‏ ما كان الاختلاف فيه راجعاً إلى أحكام الدّين دون ما كان من الاختلاف في أمور الدنيا‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏بعضُ الذي تختلفون فيه‏}‏ تهيئة لهم لقبول ما سيبيّن لهم حينئذٍ أو من بعدُ‏.‏

وهذه الآية تدل على جواز تأخير البيان فيما له ظاهر وفي ما يرجع إلى البيان بالنسخ، والمسألة من أصول الفقه‏.‏

وفرع على إجمال فاتحة كلامه قوله‏:‏ ‏{‏فاتقوا الله وأطيعون‏}‏‏.‏ وهذا كلام جامع لتفاصيل الحكمة وبيان ما يختلفون فيه، فإن التقوى مخافة الله‏.‏ وقد جاء في الأثر «رأس الحكمة مخافةُ الله» وطاعة الرّسول تَشمل معنى ‏{‏ولأبين لكم بعضَ الذي تختلفون فيه‏}‏ فإذا أطاعوه عملوا بما يبين لهم فيحصل المقصود من البيان وهو العمل‏.‏ وأجمعُ منه قول النبي صلى الله عليه وسلم لسفيان الثَقفي وقد سأله أن يقول له في الإسلام قولاً لا يسْأل عنه أحداً غيره «قُلْ آمنتُ بالله ثم استَقِم» لأنه أليق بكلمة جامعة في شريعةٍ لا يُترقب بعدها مجيء شريعة أخرى، بخلاف قول عيسى عليه السلام ‏{‏وأطيعون‏}‏ فإنه محدود بمدة وجوده بينهم‏.‏

وجملة ‏{‏إن الله هو ربّي وربّكم‏}‏ تعليل لجملة ‏{‏فاتقوا الله وأطيعون‏}‏ لأنه إذا ثبت تفرده بالربوبية توجه الأمر بعبادته إذ لا يَخاف الله إلا مَن اعترف بربوبيته وانفرادِه بها‏.‏

وضمير الفصل أفاد القصر، أي الله ربّي لا غيره‏.‏ وهذا إعلان بالوحدانية وإن كان القوم الذين أرسل إليهم عيسى موحِّدين، لكن قد ظهرت بدعةٌ في بعض فرقهم الذين قالوا‏:‏ عزيرُ ابنُ الله‏.‏ وتأكيد الجملة بِ ‏{‏إنَّ‏}‏ لمزيد الاهتمام بالخبر فإن المخاطبين غير منكرين ذلك‏.‏

وتقديم نفسه على قومه في قوله‏:‏ ‏{‏ربّي وربّكم‏}‏ لقصد سدّ ذرائع الغلوّ في تقديس عيسى، وذلك من معجزاته لأن الله علم أنه ستغلو فيه فِرق من أتباعه فيزعمون بنوَّتَه من الله على الحقيقة، ويضلّون بكلمات الإنجيل التي يَقول فيها عيسى‏:‏ أبي، مريداً به الله تعالى‏.‏

وفرع على إثبات التوحيد لله الأمر بعبادته بقوله‏:‏ ‏{‏فاعبدوه‏}‏ فإن المنفرد بالإلهية حقيق بأن يعبد‏.‏

والإشارة ب ‏{‏هذا صراط مستقيم‏}‏ إلى مضمون قوله‏:‏ ‏{‏فاتقوا الله وأطيعون‏}‏، أي هذا طريق الوصول إلى الفوز عن بصيرة ودون تردد، كما أن الصراط المستقيم لا ينبهم السير فيه على السائر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏65‏]‏

‏{‏فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ ‏(‏65‏)‏‏}‏

هذا التفريع هو المقصود من سوْق القصة مساق التنظير بين أحوال الرسل، أي عَقِب دعوتَه اختلافُ الأحزاب من بين الأمة الذين بعث إليهم والذين تقلدوا ملته طلباً للاهتداء‏.‏

وهذا التفريع دليل على جواب ‏(‏لمّا‏)‏ المحذوف‏.‏

وضمير ‏{‏بينهم‏}‏ مراد به الذين جاءهم عيسى لأنهم معلومون من سياق القصة من قوله‏:‏ ‏{‏جاء عيسى‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 63‏]‏ فإن المجيء يقتضي مجيئاً إليه وهم اليهود‏.‏

و ‏{‏من‏}‏ يجوز أن تكون مزيدة لتأكيد مدلول ‏{‏بينهم‏}‏ أي اختلفوا اختلاف أمة واحدة، أي فمنهم من صدق عيسى وهم‏:‏ يحيى بن زكرياء ومريمُ أم عيسى والحواريون الاثنا عشر وبعض نساء مثل مريم المجدلية ونفر قليل، وكفر به جمهور اليهود وأحبارهم، وكان ما كان من تَألب اليهود عليه حتى رفعه الله‏.‏ ثم انتشر الحواريون يدعون إلى شريعة عيسى فاتبعهم أقوام في بلاد رُومية وبلاد اليونان ولم يلبثوا أن اختلفوا من بينهم في أصول الديانة فتفرقوا ثلاث فرق‏:‏ نسطورية، ويعاقبة، ومَلْكَانِيَّة‏.‏ فقالت النسطورية‏:‏ عيسى ابْن الله، وقالت اليعاقبة‏:‏ عيسى هو الله، أي بطريق الحلول، وقالت المَلْكَانية وهم الكاثوليك‏:‏ عيسى ثالثُ ثلاثة مجموعها هو الإله، وتلك هي‏:‏ الأب الله، والابنُ عيسى، وروحُ القدس جبريل فالإله عندهم أقانيم ثلاثة‏.‏

وقد شملت الآية كلا الاختلافين فتكون الفاء مستعملة في حقيقة التعقيب ومجازِه بأن يكون شمولها للاختلاف الأخير مجازاً علاقته المشابهة لتشبيه مفاجأة طروّ الاختلاف بين أتباعه مع وجود الشريعة المانعةِ من مثله كأنه حدث عقب بعثة عيسى وإن كان بينه وبينها زمان طويل دبَّت فيه بدعتهم، واستعمال اللّفظ في حقيقته ومجازه شائع لأن المدار على أن تكون قرينة المجاز مانعة من إرادة المعنى الحقيقي وحده على التحقيق‏.‏ وهذا الاختلاف أُجمِل هنا ووقع تفصيله في آيات كثيرة تتعلق بما تلقّى به اليهود دعوة عيسى، وآيات تتعلق بما أحدثه النصارى في دين عيسى من زعم بنوّته من الله وإلهيته‏.‏

ويجوز أن تكون ‏{‏مِن‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏من بينهم‏}‏ ابتدائية متعلقة ب ‏(‏اختلف‏)‏ أي نشأ الاختلاف من بينهم دون أن يُدخله عليهم غيرُهم، أي كان دينهم سالماً فنشأ فيهم الاختلاف‏.‏

وعلى هذا الوجه يختص الخلاف بأتباع عيسى عليه السلام من النصارى إذ اختلفوا فرقاً وابتدعوا قضية بنوّة عيسى من الله فتكون الفاء خالصة للتعقيب المجازي‏.‏

وفرع على ذِكر الاختلاف تهديدُ بوعيد للذين ظلموا بالعذاب يوم القيامة تفريعَ التذييل على المذيَّل، فالذين ظلموا يشمل جميع الذين أشركوا مع الله غيره في الإلهية ‏{‏إن الشرك لظلمٌ عظيمٌ‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 13‏]‏، وهذا إطلاق الظلم غالباً في القرآن، فعلم أن الاختلاف بين الأحزاب أفضى بهم أن صار أكثرهم مشركين بقرينة ما هو معروف في الاستعمال من لزوم مناسبة التذييل للمذيَّل، بأن يكون التذييل يعمّ المذيَّل وغيرَه فيشمل عمومُ هذا التذييل مشركي العرب المقصودين من هذه الأمثال والعِبر، ألاَ ترى أنه وقع في سورة مريم ‏(‏37‏)‏ قولُه ‏{‏فاختَلف الأحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوممٍ عظيمٍ‏}‏ فجُعلت الصلة فعلَ كفروا لأن المقصود من آية سورة مريم الذين كفروا من النصارى ولذلك أردف بقوله‏:‏ ‏{‏لكن الظالمون اليوم في ضلاللٍ مبينٍ‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 38‏]‏ لمَّا أريد التخلص إلى إنذار المشركين بعد إنذار النصارى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏66‏]‏

‏{‏هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏66‏)‏‏}‏

استئناف بياني بتنزيل سامع قوله‏:‏ ‏{‏فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 65‏]‏ مَنزلةَ من يطلب البيان فيسأل‏:‏ متى يحلّ هذا اليوم الأليم‏؟‏ وما هو هذا الويل‏؟‏ فوردت جملة ‏{‏هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة‏}‏ جواباً عن الشقّ الأول من السؤال، وسيجيء الجواب عن الشق الثاني في قوله‏:‏ ‏{‏الأخلاء يومئذٍ بعضهم لبعضضٍ عدوّ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 67‏]‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏إن المجرمين في عذاب جهنم‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 74‏]‏ الآيات‏.‏

وقد جرى الجواب على طريقة الأسلوب الحكيم، والمعنى‏:‏ أن هذا العذاب واقع لا محالة سواء قرب زمان وقوعه أم بعُد، فلا يريبكم عدم تعجيله قال تعالى‏:‏ ‏{‏قل أرأيتم إن أتاكم عذابُه بَيَاتاً أو نهاراً ماذا يستعجل منه المجرمون‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 50‏]‏، وقد أشعر بهذا المعنى تقييد إتيان الساعة بقيد ‏{‏بغتة‏}‏ فإن الشيء الذي لا تسبقه أمارة لا يُدرَى وقتُ حلوله‏.‏

و ‏{‏ينظرون‏}‏ بمعنى ينتظرون، والاستفهام إنكاري، أي لا ينتظرون بعد أن أشركوا لحصول العذاب إلا حلولَ الساعة‏.‏ وعبر عن اليوم بالساعة تلميحاً لسرعة ما يحصل فيه‏.‏

والتعريف في ‏{‏الساعة‏}‏ تعريف العهد‏.‏ والبغتة‏:‏ الفجأة، وهي‏:‏ حصول الشيء عن غير ترقّب‏.‏

و ‏{‏أن تأتيهم‏}‏ بدل من ‏{‏الساعة‏}‏ بدلاً مطابقاً فإن إتيان الساعة هو عين الساعة لأن مسمى الساعة حلول الوقت المعيّن، والحلول هو المجيء المجازي المراد هنا‏.‏

وجملة ‏{‏وهم لا يشعرون‏}‏ في موضع الحال من ضمير النصب في ‏{‏تأتيهم‏}‏‏.‏ والشعور‏:‏ العلم بحصول الشيء الحاصل‏.‏

ولما كان مدلول ‏{‏بغتة‏}‏ يقتضي عدم الشعور بوقوع الساعة حين تقع عليهم كانت جملة الحال مؤكدة لِلجملة التي قبلها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏67- 73‏]‏

‏{‏الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ ‏(‏67‏)‏ يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ ‏(‏68‏)‏ الَّذِينَ آَمَنُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ ‏(‏69‏)‏ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ ‏(‏70‏)‏ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏71‏)‏ وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏72‏)‏ لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ ‏(‏73‏)‏‏}‏

استئناف يفيد أمرين‏:‏

أحدهما‏:‏ بيان بعض الأهوال التي أشار إليها إجمال التهديد في قوله‏:‏ ‏{‏فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 65‏]‏‏.‏

وثانيهما‏:‏ موعظة المشركين بما يحصل يوم القيامة من الأهوال لأمثالهم والحَبرة للمؤمنين‏.‏ وقد أوثر بالذكر هنا من الأهوال ما له مزيد تناسب لحال المشركين في تألبهم على مناواة الرّسول صلى الله عليه وسلم ودين الإسلام، فإنهم ما ألَّبَهم إلا تناصرهم وتوادّهم في الكفر والتباهي بذلك بينهم في نواديهم وأسمارهم، قال تعالى حكاية عن إبراهيم‏:‏ ‏{‏وقال إنّما اتخذتم من دون الله أوثاناً مودةَ بينكم في الحياة الدنيا ثم يومَ القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضاً‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 25‏]‏ وتلك شنشنة أهل الشرك من قبل‏.‏

وفي معنى هذه الآية قوله المتقدم آنفاً ‏{‏حتى إذا جَاآنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 38‏]‏‏.‏

و ‏{‏الأخلاء‏}‏‏:‏ جمع خليل، وهو الصاحب الملازم، قيل‏:‏ إنه مشتق من التخلل لأنه كالمتخلّل لصاحبه والممتزج به، وتقدم في قوله‏:‏ ‏{‏واتّخذ الله إبراهيم خليلاً‏}‏ في سورة النساء ‏(‏125‏)‏‏.‏ والمضاف إليه ‏(‏إذْ‏)‏ من قوله‏:‏ ‏{‏يومئذٍ‏}‏ هو المعوَّضُ عنه التنوين دلّ عليه المذكور قبله في قوله‏:‏ ‏{‏من عذاب يوم أليم‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 65‏]‏‏.‏

والعدوّ‏:‏ المبغض، ووزنه فَعول بمعنى فاعل، أي عَادٍ، ولذلك استوى جريانه على الواحد وغيره، وَالمُذكر وغيره، وتقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن كان من قوممٍ عدوّ لكم‏}‏ في سورة النساء ‏(‏92‏)‏‏.‏

وتعريف الأخلاء‏}‏ تعريف الجنس وهو مفيد استغراقاً عرفياً، أي الأخلاّء من فريقي المشركين والمؤمنين أو الأخلاء من قريش المتحدّث عنهم، وإلاّ فإن من الأخلاء غير المؤمنين من لا عداوة بينهم يومَ القيامة وهم الذين لم يستخدموا خلتهم في إغراء بعضهم بعضاً على الشرك والكفر والمعاصي وإن افترقوا في المنازل والدرجات يوم القيامة‏.‏

و ‏{‏يومئذ‏}‏ ظرف متعلق بعدوّ، وجملة ‏{‏يا عبادي‏}‏ مقولة لقول محذوف دلت عليه صيغة الخطاب، أي نقول لهم أو يقول الله لهم‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏يا عبادي‏}‏ بإثبات الياء على الأصل‏.‏ وقرأه حفص والكسائي بحذف ‏(‏ياء‏)‏ المتكلم تخفيفاً‏.‏ قال ابن عطية قال أبو علي‏:‏ وحذفها حسن لأنها في مَوْضِععِ تنوين وهي قد عاقبته فكما يحذف التنوين في الاسم المفرد المنادَى كذلك تحذف اليَاء هنا‏.‏

ومفاتحة خطابهم بنفي الخوف عنهم تأنيس لهم ومنة بإنجائهم من مثله وتذكيرٌ لهم بسبب مخالفة حالهم لِحال أهل الضلالة فإنهم يشاهدون ما يعامل به أهل الضلالة والفساد‏.‏

و ‏{‏لا خوف‏}‏ مرفوع منون في جميع القراءات المشهورة، وإنما لم يفتح لأن الفتح على تضمين ‏(‏مِن‏)‏ الزائدة المؤكدة للعموم وإذ قد كان التأكيد مفيداً التنصيص على عدم إرادة نفي الواحد، وكان المقام غير مقام التردد في نفي جنس الخوف عنهم لأنه لم يكن واقعاً بهم حينئذٍ مع وقوعه على غيرهم، فأمارة نجاتهم منه واضحة، لم يحتج إلى نصب اسم ‏{‏لا‏}‏، ونظيره قول الرابعة من نساء حديث أمّ زرع‏:‏ زوجِي كَلَيْل تِهامهْ، لا حَرٌّ ولا قُرٌّ ولا مخافةٌ ولا سآمهْ‏.‏

روايته برفع الأسماء الأربعة لأن انتفاء تلك الأحوال عن ليل تهامة مشهور، وإنما أرادت بيان وجوه الشبه من قولها كليللِ تهامة‏.‏

وجيء في قوله‏:‏ ‏{‏ولا أنتم تحزنون‏}‏ بالمسند إليه مخبراً عنه بالمسند الفِعلي لإفادة التقويّ في نفي الحزن عنهم، فالتقوي أفاد تقوّي النفي لا نفي قوة الحزن الصادق بحزن غير قوي‏.‏ هذا هو طريق الاستعمال في نفس صيغ المبالغة كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما ربّك بظلاممٍ للعبيد‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 46‏]‏، تطميناً لأنفسهم بانتفاء الحزن عنهم في أزمنة المستقبل، إذ قد يهجس بخواطرهم هل يدوم لهم الأمْن الذي هم فيه‏.‏

وجملة ‏{‏الذين آمنوا بآياتنا‏}‏ نعت للمنادَى من قوله‏:‏ ‏{‏يا عبادي‏}‏ جيء فيها بالموصول لدلالة الصلة على علة انتفاء الخوف والحزن عنهم، وعطف على الصلة قوله‏:‏ ‏{‏وكانوا مسلمين‏}‏‏.‏ والمخالفة بين الصلتين إذ كانت أولاهما فعلاً ماضياً والثانية فعل كون مخبراً عنه باسم فاعل لأن الإيمان‏:‏ عقد القلب يحصل دفعة واحدة وأما الإسلام فهو الإتيان بقواعد الإسلام الخمس كما جاء تفسيره في حديث سؤال جبريل، فهو معروض للتمكن من النفس فلذلك أوثر بفعل ‏(‏كان‏)‏ الدّال على اتحاد خبره باسمه حتى كأنه من قِوام كيانه‏.‏

وعطف أزواجهم عليهم في الإذن بدخول الجنّة من تمام نعمة التمتع بالخلة التي كانت بينهم وبين أزواجهم في الدنيا‏.‏

و ‏{‏تحبرون‏}‏ مبني للمجهول مضارع حُبر بالبناء للمجهول، وفعله حَبَره، إذا سره، ومصدره الحَبْر بفتح فسكون، والاسم الحُبور والحَبْرة، وتقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فهم في روضةٍ يُحبرون‏}‏ في سورة الروم ‏(‏15‏)‏‏.‏

وجملة ‏{‏يطاف عليهم بصحاف‏}‏ الخ معترضة بين أجزاء القول فليس في ضمير ‏{‏عليهم‏}‏ التفات بل المقام لضمير الغيبة‏.‏

والصحاف‏:‏ جمع صحفة، وهي‏:‏ إناء مستدير واسع الفم ينتهي أسفله بما يقارب التكوير‏.‏ والصحفة‏:‏ إناء لوضع الطعام أو الفاكهة مثل صحاف الفغفوري الصيني تسَع شِبْع خمسة، وهي دون القصعة التي تسع شِبْع عشرة‏.‏ وقد ورد أن عمر بن الخطاب اتخذ صِحافاً على عدد أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فلا يؤتى إليه بفاكهة أو طُرْفَة إلا أرسل إليهن منها في تلك الصحاف‏.‏

والأكواب‏:‏ جمع كُوب بضم الكاف وهو إناء للشراب من ماء أو خمر مستطيل الشكل له عنق قصير في أعلى ذلك العنق فمه وهو مصبّ ما فيه، وفمه أضيق من جوفه، والأكثر أن لا تكون له عروة يُمسَك منها فيمسك بوضع اليد على عنقه، وقد تكون له عروة قصيرة، وهو أصغر من الإبريق إلا أنه لا خرطوم له ولا عروة في الغالب‏.‏ وأما الإبريق فله عروة وخرطوم‏.‏

وحذف وصف الأكواب لدلالة وصف صحاف عليه، أي وأكواب من ذهب‏.‏ وهذه الأكواب تكون للماء وتكون للخمر‏.‏

وجملة ‏{‏وفيها ما تشتهيه الأنفس‏}‏ الخ حال من ‏{‏الجنة‏}‏، هي من بقية القول‏.‏

وضمير ‏{‏فيها‏}‏ عائد إلى ‏{‏الجنة‏}‏، وقد عمّ قوله‏:‏ ‏{‏ما تشتهيه الأنفس‏}‏ كلّ ما تتعلق الشهوات النفسية بنواله وتحصيله، والله يخلق في أهل الجنة الشهوات اللائقة بعالم الخلود والسمو‏.‏

و ‏{‏تَلَذُّ‏}‏ مضارع لَذّ بوزن عَلِم‏:‏ إذا أحسّ لذة، وحق فعله أن يكون قاصراً فيعدّى إلى الشيء الذي به اللّذة بالباء فيقال‏:‏ لذ به، وكثر حذف الباء وإيصال الفعل إلى المجرور بنفسه فينتصب على نزع الخافض، وكثر ذلك في الكلام حتى صار الفعل بِمَنزلة المتعدي فقالوا‏:‏ لذّهُ‏.‏ ومنه قوله هنا‏:‏ ‏{‏وتلذّ الأعين‏}‏ التقدير، وتلذُّهُ الأعين‏.‏ والضمير المحذوف هو رابط الصلة بالموصول‏.‏ ولذة الأعين في رؤية الأشكال الحسنة والألوان التي تنشرح لها النفس، فلذّة الأعين وسيلة للذة النفوس فعطف ‏{‏وتلَذّ الأعين‏}‏ على ‏{‏ما تشتهيه الأنفس‏}‏ عطف ما بينه وبين المعطوف عليه عمومٌ وخصوص، فقد تشتهي الأنفس ما لا تراه الأعين كالمحادثة مع الأصحاب وسماععِ الأصوات الحسنة والموسيقى‏.‏ وقد تبصر الأعين ما لم تسبق للنفس شهوة رؤيتِه أو ما اشتهت النفس طعمه أو سمعه فيؤتى به في صور جميلة إكمالاً للنعمة‏.‏ و‏{‏الأنفس‏}‏ فاعل ‏{‏تلَذّ‏}‏ وحْذف المفعول لظهوره من المقام‏.‏

وقرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم وأبو جعفر ‏{‏ما تشتهيه‏}‏ بهاء ضمير عائد إلى ‏{‏ما‏}‏ الموصولة وكذلك هو مرسوم في مصحف المدينة ومصحف الشام، وقرأه البَاقون ‏{‏ما تشتهي‏}‏ بحذف هاء الضمير، وكذلك رُسم في مصحف مكة ومصحف البصرة ومصحف الكوفة‏.‏ والمروي عن عاصم قارئ الكوفة روايتان‏:‏ إحداهما أخذ بها حفص والأخرى أخذ بها أبو بكر‏.‏ وحذف العائد المتصل المنصوب بفعل أو وصف من صلة الموصول كثير في الكلام‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وأنتم فيها خالدون‏}‏ بشارة لهم بعدم انقطاع الحَبْرة وسعة الرزق ونيل الشهوات، وجيء فيه بالجملة الاسمية الدالة على الدوام والثبات تأكيداً لحقيقة الخلود لدفع توهم أن يراد به طول المدة فحسب‏.‏

وتقديم المجرور للاهتمام، وعطف على بعض ما يقال لهم مقول آخر قُصد منه التنويه بالجنة وبالمؤمنين إذ أُعطوها بسبب أعمالهم الصالحة، فأشير إلى الجنة باسم إشارة البعيد تعظيماً لشأنها وإلا فإنها حاضرة نصب أعينهم‏.‏

وجملة ‏{‏وتلك الجنة التي أورثموها‏}‏ الآية تذييل للقول‏.‏ واسم الإشارة مبتدأ و‏{‏الجنة‏}‏ خبره، أي تلك التي تَرونها هي الجنة التي سمعتم بها ووُعدتم بدخولها‏.‏ وجملة ‏{‏التي أورثتموها بما كنتم تعملون‏}‏ صفة للجنة‏.‏

واستعير ‏{‏أورثتموها‏}‏ لمعنى‏:‏ أُعطيتموها دون غيركم، بتشبيه إعطاء الله المؤمنين دون غيرهم نعيم الجنة بإعطاء الحاكم مال الميت لوارثه دون غيره من القرابة لأنه أولى به وآثرُ بنيله‏.‏

والباء في ‏{‏بما كنتم تعملون‏}‏ للسببية وهي سببية بجعل الله ووعده، ودل قوله ‏{‏كنتم تعملون‏}‏ على أن عملهم الذي استحقّوا به الجنة أمر كائن متقرر، وأن عملهم ذلك متكرر متجدد، أي غير منقطع إلى وفاتهم‏.‏

وجملة ‏{‏لكم فيها فاكهة‏}‏ صفة ثانية للجنة‏.‏ والفاكهة‏:‏ الثمار رطبها ويابسها، وهي من أحسن ما يستلذّ من المآكل، وطعومُها معروفة لكل سامع‏.‏

ووجه تكرير الامتنان بنعيم المأكل والمشرب في الجنة‏:‏ أن ذلك من النعيم الذي لا تختلف الطباع البشرية في استلذاذه، ولذلك قال‏:‏ ‏{‏منها تأكلون‏}‏ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كُلوا من ثمرهِ إذا أثمر‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 141‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏74- 75‏]‏

‏{‏إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ‏(‏74‏)‏ لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ‏(‏75‏)‏‏}‏

لهذه الجملة موقعان‏:‏

أحدهما‏:‏ إتمام التفصيل لما أجمله الوعيد الذي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 65‏]‏ عقب تفصيل بعضه بقوله‏:‏ ‏{‏هل ينظرون إلا الساعة‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 66‏]‏ الخ‏.‏ وبقوله‏:‏ ‏{‏الأخلاء يومئذٍ بعضهم لبعض عدوٌ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 67‏]‏ حيث قطع إتمام تفصيله بالاعتناء بذكر وعد المؤمنين المتقين فهي في هذا الموقع بيان لجملة الوعيد وتفصيل لإجمالها‏.‏

الموقع الثاني‏:‏ أنها كالاستئناف البياني يثيره ما يُسمع من وصف أحوال المؤمنين المتقين من التساؤل‏:‏ كيف يكون حال أضدادهم المشركين الظالمين‏.‏

والموقعان سواء في كون الجملة لا محلّ لها من الإعراب‏.‏

وافتتاح الخبر ب ‏{‏إنّ‏}‏ للاهتمام به، أو لتنزيل السائل المتلهففِ للخبر منزلة المتردّد في مضمونه لشدة شوقه إليه، أو نظراً إلى ما في الخبر من التعريض بإسماعه المشركين وهم ينكرون مَضْمُونَهُ فكأنه قيل‏:‏ إنكم أيها المجرمون في عذاب جهنم خالدون‏.‏

والمجرمون‏:‏ الذين يفعلون الإجرام، وهو الذنب العظيم‏.‏ والمراد بهم هنا‏:‏ المشركون المكذبون للنبيء صلى الله عليه وسلم لأن السياق لهم، ولأن الجملة بيان لإجمال وعيدهم في قوله‏:‏ ‏{‏فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 65‏]‏، ولأن جواب الملائكة نداءهم بقولهم‏:‏ ‏{‏لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 78‏]‏ لا ينطبق على غير المكذبين، أي كارهون للإسلام والقرآن، فذكر المجرمين إظهار في مقام الإضمار للتنبيه على أن شركهم إجرام‏.‏

وجملة ‏{‏لا يفتر عنهم‏}‏ في موضع الحال من ‏{‏عذاب جهنم‏}‏ و‏{‏يفتر‏}‏ مضاعف فَتَر، إذا سكن، وهو بالتضعيف يتعدّى إلى مفعول‏.‏ والمعنى‏:‏ لا يفتِّره أحد‏.‏

وجملة ‏{‏وهم فيه مبلسون‏}‏ عطف على جملة ‏{‏إنّ المجرمين في عذاب جهنم خالدون‏}‏‏.‏

والإبلاس‏:‏ اليأس والذل، وتقدم في سورة الأنعام‏:‏ وزاد الزمخشري في معنى الإبلاس قيد السكوت ولم يذكره غيره، والحق أن السكوت من لوازم معنى الإبلاس وليس قيداً في المعنى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏76‏]‏

‏{‏وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ ‏(‏76‏)‏‏}‏

جملة معترضة في حكاية أحوال المجرمين قُصد منها نفي استعظام ما جُوزُوا به من الخلود في العذاب ونفي الرقة لحالهم المحكية بقوله‏:‏ ‏{‏وهم فيه مبلسون‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 75‏]‏‏.‏

والظلم هنا‏:‏ الاعتداء، وهو الإصابة بضرّ بغير موجب مشروع أو معقول، فنفيه عن الله في مُعَامَلتِهِ إياهم بتلك المعاملة لأنها كانت جزاءً على ظلمهم فلذلك عقب بقوله‏:‏ ‏{‏ولكن كانوا هم الظالمين‏}‏ أي المعتدين إذ اعتدوا على ما أمر الله من الاعتراف له بالإلهية، وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ كذبوه ولمَزوه، كما تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏إن الشرك لظلمٌ عظيمٌ‏}‏ في سورة لقمان ‏(‏13‏)‏‏.‏

و ‏{‏هم‏}‏ ضمير فصل لا يطلب معاداً لأنه لم يجْتلبْ للدلالة على معاد لوجود ضمير ‏{‏كانوا‏}‏ دالاً على المعاد فضمير الفصل مجْتلبٌ لإفادة قصر صفة الظلم على اسم ‏(‏كان‏)‏، وإذ قد كان حرف الاستدراك بعد النفي كافياً في إفادة القصر كان اجتلاب ضمير الفصل تأكيداً للقصر بإعادة صيغة أخرى من صيغ القصر‏.‏ وجمهور العرب يجعلون ضمير الفصل في الكلام غير واقع في موقع إعراب فهو بمنزلة الحرف، وهو عند جمهور النحاة حرف لا محل له من الإعراب ويسميه نحاة البصرة فَصلاً، ويسميه نحاة الكوفة عِمَاداً‏.‏

واتفق القراء على نصب ‏{‏الظالمين‏}‏ على أنه خبر ‏{‏كانوا‏}‏ وبنو تميم يجعلونه ضميراً طالباً معاداً وصَدراً لِجملته مبتدأ ويجعلون جملته في محل الإعراب الذي يقتضيه ما قبله، وعلى ذلك قرأ عبد الله بن مسعود وأبو زيد النحوي ‏{‏ولكن كانوا هم الظالمون‏}‏ على أن هم مبتدأ والجملة منه ومنْ خبرِه خبرُ ‏{‏كانوا‏}‏‏.‏ وحكى سيبويه أن رؤبة بن العجاج كان يقول‏:‏ أظن زيداً هو خيرٌ منك، برفع خير‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏77- 78‏]‏

‏{‏وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ ‏(‏77‏)‏ لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ‏(‏78‏)‏‏}‏

جملة ‏{‏ونادوا‏}‏ حال من ضمير ‏{‏وهم فيه مبلسون‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 75‏]‏، أو عطف على جملة ‏{‏وهم فيه مبلسون‏}‏‏.‏ وحكي نداؤهم بصيغة الماضي مع أنه مما سيقع يوم القيامة، إما لأن إبلاسهم في عذاب جهنم وهو اليأس يكون بعد أن نادوا يا مالك وأجابهم بما أجاب به، وذلك إذا جعلت جملة ‏{‏ونادوا‏}‏ حالية، وإمّا لتنزيل الفعل المستقبل منزلة الماضي في تحقيق وقوعه تخريجاً للكلام على خلاف مقتضى الظاهر نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويوم ينفخ في الصور‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 87‏]‏ ‏{‏فصَعِق مَن في السماوات ومَن في الأرض‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 68‏]‏ وهذا إن كانت جملة ‏{‏ونادوا‏}‏ الخ معطوفة‏.‏

و ‏(‏مالك‏)‏ المنادى اسم الملَك الموكّل بجهنم خاطبوه ليرفع دعوتهم إلى الله تعالى شفاعة‏.‏

واللام في ‏{‏ليقض علينا ربك‏}‏ لام الأمر بمعنى الدعاء‏.‏ وتوجيه الأمر إلى الغائب لا يكون إلا على معنى التبليغ كما هنا، أو تنزيل الحاضر منزلة الغائب لاعتبار مَّا مثل التعظيممِ في نحو قول الوزير للخليفة‏:‏ لِيَرَ الخليفة رأيه‏.‏

والقضاء بمعنى‏:‏ الإماتة كقوله‏:‏ ‏{‏فوكزه موسى فقضَى عليه‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 15‏]‏، سألوا الله أن يزيل عنهم الحياة ليستريحوا من إحساس العذاب‏.‏ وهم إنما سألوا الله أن يميتهم فأجيبوا بأنهم ماكثون جواباً جامعاً لنفي الإماتة ونفي الخروج فهو جواب قاطع لما قد يسألونه من بعدُ‏.‏

ومن النوادر المتعلقة بهذه الآية ما روي أن ابن مسعود قرأ ‏(‏ونادَوا يا مَالِ‏)‏ بحذف الكاف على الترخيم، فذكرت قراءته لابن عباس فقال‏:‏ مَا كان أشغلَ أهلَ النار عَن الترخيم، قال في «الكشاف»‏:‏ وعن بعضهم‏:‏ حسَّن الترخيم أنهم يقتطعون بعض الاسم لضعفهم وعظم ما هم فيه اه‏.‏ وأراد ببعضهم ابنَ جني فيما ذكره الطِّيبي أن ابن جنّي قال‏:‏ وللترخيم في هذا الموضع سرّ وذلك أنهم لعظم ما هم عليه ضعفتْ وذلّتْ أنفُسهم وصغر كلامهم فكان هذا من مواضع الاختصار‏.‏ وفي «صحيح البخاري» عن يَعْلَى بن أمية سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ على المنبر ‏{‏ونادوا يا مالك‏}‏ بإثبات الكاف‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وَقِرَاءَةُ ‏(‏ونادوا يا مال‏)‏ رواها أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم فيكون النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بالوجهين وتواترت قراءة إثبات الكاف وبقيت الأخرى مروية بالآحاد فلم تكن قرآناً‏.‏

وجملة ‏{‏لقد جئناكم بالحق‏}‏ إلى آخرها في موضع العلة لِجملة ‏{‏إنكم ماكثون‏}‏ باعتبار تمَام الجملة وهو الاستدراك بقوله‏:‏ ‏{‏ولكن أكثركم للحق كارهون‏}‏‏.‏

وضمير ‏{‏جئناكم‏}‏ للملائكة، والحقُ‏:‏ الوحي الذي نزل به جبريل فنسب مالك المجيء بالحق إلى جَمْععِ الملائكة على طريقة اعتزاز الفريق والقبيلة بمزايا بعضها، وهي طريقة معروفة في كلام العرب كقول الحارث بن حلزة‏:‏

وفككْنا غُلّ امرئ القيس عنه *** بعد مَا طال حبسه والعَناء

وإنما نسبت كراهة الحق إلى أكثرهم دون جميعهم لأن المشركين فريقان أحدهما سادة كبراء لملة الكفر وهم الذين يصدون الناس عن الإيمان بالإرهاب والترغيب مثل أبي جهل حين صَدَّ أبَا طالب عند احتضاره عن قول لا إله إلا الله وقال‏:‏ أترغب عن ملة عبد المطلب، وثانيهما دهماء وعامة وهم تبع لأيمة الكفر‏.‏ وقد أشارت إلى ذلك آيات كثيرة منها قوله في سورة البقرة ‏(‏166‏)‏ ‏{‏إذ تبرَّأ الذين اتُّبعوا من الذين اتَّبعوا‏}‏ الآيات فالفريق الأول هم المراد من قوله‏:‏ ‏{‏ولكن أكْثَرُكُمْ للحق كارهون‏}‏ وأولئك إنما كرهوا الحق لأنه يرمي إلى زوال سلطانهم وتعطيل منافعهم‏.‏

وتقديم ‏{‏للحق‏}‏ على ‏{‏كارهون‏}‏ للاهتمام بالحق تنويهاً به، وفيه إقامة الفاصلة أيضاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏79‏]‏

‏{‏أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ ‏(‏79‏)‏‏}‏

‏{‏أم‏}‏ منقطة للإضراب الانتقالي من حديث إلى حديث مع اتحاد الغرض‏.‏ انتقل من حديث ما أُعد لهم من العذاب يوم القيامة ما أُعد لهم من الخزي في الدنيا‏.‏ فالجملة عطف على جملة ‏{‏هل ينظرون إلا الساعة‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 66‏]‏ الخ‏.‏

والكلام بعد ‏{‏أم‏}‏ استفهام حذفت منه أداة الاستفهام وهو استفهام تقريري وتهديد، أي أأبرموا أمراً‏.‏ وضمير ‏{‏أبرموا‏}‏ مراد به المشركون الذين ناوأوا النبي صلى الله عليه وسلم وضمير ‏(‏إنَّا‏)‏ ضمير الجلالة‏.‏

والفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فإنا مبرمون‏}‏ للتفريع على ما اقتضاه الاستفهام من تقدير حصول المستفهم عنه فيؤول الكلام إلى معنى الشرط، أي إن أبرموا أمراً من الكيد فإن الله مبرم لهم أمراً من نقض الكيد وإلحاق الأذى بهم، ونظيره وفي معناه قوله‏:‏ ‏{‏أم يريدون كيداً فالذين كفروا هم المكيدون‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 42‏]‏‏.‏

وعن مقاتل نزلت هذه الآية في تدبير قريش بالمكر بالنبي صلى الله عليه وسلم في دار الندوة حين استقرّ أمرهم على ما أشار به أبو جهل عليهم أن يبرز من كل قبيلة رجل ليشتركوا في قتل النبي صلى الله عليه وسلم حتى لا يستطيع بنو هاشم المطالبة بدمه، وقَتَل الله جميعهم في بدر‏.‏

والإبرام حقيقته‏:‏ القتل المحكم، وهو هنا مستعار لإحكام التدبير والعزم على ما دبروه‏.‏

والمخالفة بين ‏{‏أبرموا‏}‏ و‏{‏مُبرمون‏}‏ لأن إبرامهم واقع، وأما إبرام الله جزاءً لهم فهو توعد بأن الله قدَّر نقض ما أبرموه فإن اسم الفاعل حقيقة في زمن الحال، أي نحن نقدّر لهم الآن أمراً عظيماً، وذلك إيجاد أسباب وقعة بدر التي استؤصلوا فيها‏.‏

والأمر‏:‏ العمل العظيم الخطير، وحذف مفعول ‏{‏مبرمون‏}‏ لدلالة ما قبله عليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏80‏]‏

‏{‏أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ‏(‏80‏)‏‏}‏

‏{‏أم‏}‏ والاستفهام المقدر بعدها في قوله‏:‏ ‏{‏أم يحسبون‏}‏ هما مثل ما تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏أم أبرموا أمراً‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 79‏]‏‏.‏

وحرف ‏{‏بلى‏}‏ جواب للنفي من قوله‏:‏ ‏{‏أنا لا نسمع‏}‏، أي بَلى نحن نسمع سرهم ونجواهم‏.‏

والسمع هو‏:‏ العلم بالأصوات‏.‏

والمراد بالسر‏:‏ ما يُسرونه في أنفسهم من وسائل المَكر للنبيء صلى الله عليه وسلم وبالنجوى ما يتناجون به بينهم في ذلك بحديث خفيّ‏.‏

وعطف ‏{‏ورسلنا لديهم يكتبون‏}‏ ليعلموا أن علم الله بما يُسِرُّون علم يترتب عليه أثرٌ فيهم وهو مؤاخذتهم بما يسرّون لأن كتابة الأعمال تؤذن بأنها ستحسب لهم يوم الجزاء‏.‏ والكتابة يجوز أن تكون حقيقة، وأن تكون مجازاً، أو كناية عن الإحصاء والاحتفاظ‏.‏

والرسل‏:‏ هم الحفظة من الملائكة لأنهم مرسلون لتقصّي أعمال النّاس ولذلك قال‏:‏ ‏{‏لديهم يكتبون‏}‏ كقوله‏:‏ ‏{‏ما يلفظ من قولٍ إلا لديه رقيبٌ عتيدٌ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 18‏]‏، أي رقيب يرقب قوله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏81- 82‏]‏

‏{‏قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ ‏(‏81‏)‏ سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ‏(‏82‏)‏‏}‏

لما جرى ذكر الذين ظلموا بادعاء بنوة الملائكة في قوله‏:‏ ‏{‏فويلٌ للذين ظلموا من عذاب يوممٍ أليمٍ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 65‏]‏ عَقِب قوله‏:‏ ‏{‏ولما ضُرب ابن مريم مثلاً‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 57‏]‏، وعَقِب قوله قبله ‏{‏وجعلوا الملائكة الذين هم عند الرحمن إناثاً‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 19‏]‏‏.‏

وأعقب بما ينتظرهم من أهوال القيامة وما أُعد للذين انخلعوا عن الإشراك بالإيمان، أمر الله رسوله أن ينتقل من مقام التحذير والتهديد إلى مقام الاحتجاج على انتفاء أن يكون لله ولَد، جمعاً بين الرد على بعض المشركين الذين عبدوا الملائكة، والذين زعموا أن بعض أصنامهم بنات الله مثل اللاتتِ والعُزَّى، فأمره بقوله‏:‏ ‏{‏قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين‏}‏ أي قل لهم جدَلا وإفحاماً، ولقَّنه كلاماً يدل على أنه ما كان يعزب عنه أن الله ليس له ولد ولا يخطر بباله أن لله ابناً‏.‏ والذين يقول لهم هذا المقول هم المشركون الزاعمون ذلك فهذا غرض الآية على الإجمال لأنها افتتحت بقوله‏:‏ ‏{‏قل إن كان للرحمن ولد‏}‏ مع علم السامعين أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يروج عنده ذلك‏.‏ ونظم الآية دقيق ومُعضِل، وتحته معاننٍ جمّة‏:‏

وأولُها وأوْلاها‏:‏ أنه لو يَعلم أن لله أبناءَ لكان أول من يعبدهم، أي أحق منكم بأن أعبدهم، أي لأنه ليس أقل فهماً من أن يعلم شيئاً ابناً لله ولا يعترف لذلك بالإلهية لأن ابن الله يكون منسلاً من ذات إلهية فلا يكون إلا إلها وأنا أعلم أن الإله يستحق العبادة، فالدليل مركب من مُلاَزَمةٍ شرطية، والشرط فرضيٌّ، والملازمة بين الجواب والشرط مبنية على أن المتكلم عاقل داععٍ إلى الحق والنجاة فلا يرضى لنفسه ما يورطه، وأيضاً لا يرضى لهم إلا ما رضيه لنفسه، وهذا منتهى النصح لهم، وبه يتمّ الاستدلال ويفيد أنه ثابت القدم في توحيد الإله‏.‏

ونُفي التعدد بنفي أخص أحوال التعدد وهو التعدد بالأبوة والبنوة كتعدد العائلة، وهو أصل التعدد فينتفي أيضاً تعدد الآلهة الأجانب بدلالة الفحوى‏.‏ ونظيره قول سعيد بن جبير للحجاج‏.‏ وقد قال له الحجاج حين أراد أن يقتله‏:‏ لأُبَدِّلَنَّك بالدنيا ناراً تَلظّى فقال سعيد‏:‏ لو عرفتُ أن ذلك إليك ما عبدتُ إلها غيرك، فنبهه إلى خطئه بأن إدخال النار من خصائص الله تعالى‏.‏

والحاصل أن هذا الاستدلال مركب من قضية شرطية أول جُزْأيْها وهو المقدم باطل، وثانيهما وهو التالي باطل أيضاً، لأن بطلان التالي لازم لبطلان المقّدم، كقولك‏:‏ إن كانت الخمسة زوجاً فهي منقسمة بمتساويين، والاستدلال هنا ببطلان التالي على بطلان المقدم لأن كون النبي صلى الله عليه وسلم عابداً لمزعوم بنوتُه لله أمرٌ منتففٍ بالمشاهدة فإنه لم يزل ناهياً إياهم عن ذلك‏.‏ وهذا على وزان الاستدلال في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لو كان فيهما آلهةٌ إلا الله لفسدتا‏}‏

‏[‏الأنبياء‏:‏ 22‏]‏، إلا أن تلك جعل شرطها بأداة صريحة في الامتناع، وهذه جعل شرطها بأداة غير صريحة في الامتناع‏.‏ والنكتة في العدول عن الأداة الصريحة في الامتناع هنا إيهامُهم في بادئ الأمر أن فرضَ الولد لله محل نظرٍ، وليتأتى أن يكون نظم الكلام موجهاً حتى إذا تأملوه وجدوه ينفي أن يكون لله ولد بطريق المذهب الكلامي‏.‏ ويدل لهذا ما رواه في «الكشاف» أن النضر بن عبد الدار بن قصي قال‏:‏ إن الملائكة بنات الله فنزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين‏}‏‏.‏ فقال النضر‏:‏ ألا ترون أنه قد صدَّقني، فقال له الوليد بن المغيرة‏:‏ ما صدَّقك ولكن قال‏:‏ ما كان للرحمان ولد فأنا أول الموحدين من أهل مكة‏.‏ ورُوي مجمل هذا المعنى عن السدّي فكان في نظم الآية على هذا النظم إيجاز بديع، وإطماع للخصوم بما إن تأملوه استبان وجه الحق فإن أعرضوا بعد ذلك عُد إعراضهم نكوصاً‏.‏

وتحتمل الآية وجوهاً أخر من المعاني‏.‏ منها‏:‏ أن يكون المعنى إن كان للرحمان ولد في زعمكم فأنا أول العابدين لله، أي فأنا أول المؤمنين بتكذيبكم، قاله مجاهد، أي بقرينة تذييله بجملة ‏{‏سبحان رب السموات والأرض‏}‏ الآية‏.‏

ومنها، أن يكون حرف ‏{‏إنْ‏}‏ للنفي دون الشرط، والمعنى‏:‏ ما كان للرحمان ولد فتفرع عليه‏:‏ أنا أول العابدين لله، أي أتنزه عن إثبات الشريك له، وهذا عن ابن عباس وَقتادة وزيد بن أسلم وابنه‏.‏ ومنها‏:‏ تأويل ‏{‏العابدين‏}‏ أنه اسم فاعل من عبد يعبَد من باب فرح، أي أنف وغضب، قاله الكسائي، وطعن فيه نفطويه بأنه إنما يقال في اسم فاعل عبد يَعْبَدُ عَبِد وقلما يقولون‏:‏ عَابد والقرآن لا يأتي بالقليل من اللّغة‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏ولد‏}‏ بفتح الواو وفتح اللام‏.‏ وقرأه حمزة والكسائي ‏{‏وُلْد‏}‏ بضم الواو وسكون اللام جمع ولَد‏.‏

وجملة ‏{‏سبحان رب السموات والأرض رب العرش عما يصفون‏}‏، يجوز أن تكون تكملة لما أُمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يقوله، أي قل‏:‏ إن كان للرحمن ولد على الفرض، والتقدير‏:‏ مع تنزيه عن تحقق ذلك في نفس الأمر‏.‏ فيَكون لهذه الجملة حكم التالي في جزأي القياس الشرطي الاستثنائي‏.‏ وليس في ضمير ‏{‏يصفون‏}‏ التفات لأن تقدير الكلام‏:‏ قل لهم إن كان للرحمن ولد‏.‏

ويجوز أن تكون كلاماً مستأنفاً من جانب الله تعالى لإنشاء تنزيهه عما يقولون فتكون معترضة بين جملة ‏{‏قل إن كان للرحمن ولد‏}‏ وجملة ‏{‏وهو الذي في السماء إله‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 84‏]‏‏.‏ ولهذه الجملة معنى التذييل لأنها نزهت الله عن جميع ما يصفونه به من نسبَة الولد وغير ذلك‏.‏

ووصفه بربوبيةِ أقوى الموجودات وأعمها وأعظمها، لأنه يفيد انتفاء أن يكون له ولد لانتفاء فائدة الولادة، فقد تم خلق العوالم ونظام نمائها ودوامها، وعلم من كونه خالقها أنه غير مسبوق بعدم وإلا لاحتاج إلى خالق يخلُقه، واقتضى عدمُ السبق بعدم أنه لا يلحقه فناء فوجود الولد له يكون عبثاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏83‏]‏

‏{‏فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ‏(‏83‏)‏‏}‏

اعتراض بِتَفْرِيععٍ عَن تنزيه الله عما ينسبونه إليه من الولد والشركاء، وهذا تأييس من إجداء الحجة فيهم وأن الأوْلى به متاركتهم في ضلالهم إلى أن يحِين يومٌ يلقون فيه العذاب الموعود‏.‏ وهذا متحقق في أيمة الكفر الذين ماتوا عليه، وهم الذين كانوا متصدين لمحاجّة النبي صلى الله عليه وسلم ومجادلته والتشغيب عليه مثل أبي جهل وأمية بن خلف وشيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة والوليد بن المغيرة والنضر بن عبد الدار ممن قُتلوا يوم بدر‏.‏

و ‏(‏اليومَ‏)‏ هنا محتمل ليوم بدر وليوم القيامة وكلاهما قد وُعدوه، والوعد هنا بمعنى الوعيد كما دل عليه السياق‏.‏

والخَوْض حقيقته‏:‏ الدخول في لُجّة الماء ماشياً، ويطلق مجازاً على كثرة الحديث، والأخبار والاقتصار على الاشتغال بها، وتقدم في قوله‏:‏ ‏{‏وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏68‏)‏‏.‏

والمعنى‏:‏ فأعرض عنهم في حال خَوضهم في الأحاديث ولَعِبهم في مواقع الجد حين يهزأوون بالإسلام‏.‏ واللعب‏:‏ المزح والهزل‏.‏

وجُزم فعل ‏{‏يخوضوا ويلعبوا‏}‏ بلام الأمر محذوفة وهو أولى من جعله جزماً في جواب الأمر، وقد تكرر مثله في القرآن فالأمر هنا مستعمل في التهديد من قبيل ‏{‏اعملوا ما شئتم‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 40‏]‏‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏يلاقوا‏}‏ بضم الياء وبألف بعد اللام، وصيغة المفاعلة مجاز في أنه لقاء مُحقق‏.‏ وقرأه أبو جعفر ‏{‏يَلْقوا‏}‏ بفتح الياء وسكون اللام على أنه مضارع المُجرد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏84‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ‏(‏84‏)‏‏}‏

‏{‏يُوعَدُونَ * وَهُوَ الذى فِى السمآء إله وَفِى الارض إله‏}‏‏.‏

عطف على جملة ‏{‏قل إن كان للرحمن ولد‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 81‏]‏ والجملتان اللتان بينهما اعتراضان، قصد من العطف إفادة نفي الشريك في الإلهية مطلقاً بعد نفي الشريك فيها بالبُنوة، وقصد بذكر السماء والأرض الإحاطة بعوالم التدبير والخلق لأن المشركين جعلوا لله شركاء في الأرض وهم أصنامهم المنصوبة، وجعلوا له شركاء في السماء وهم الملائكة إذ جعلوهم بنات لله تعالى فكان قوله‏:‏ ‏{‏في السماء إله وفي الأرض إله‏}‏ إبطالاً للفريقين مما زُعمت إلهيتهم‏.‏ وكان مقتضى الظاهر بهذه الجملة أن يكون أوَّلها ‏{‏الذي في السَّماء إله‏}‏ على أنه وصف للرحمان من قوله‏:‏ ‏{‏إن كان للرحمن ولد‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 81‏]‏، فعُدل عن مقتضى الظاهر بإيراد الجملة معطوفة لتكون مستقلة غير صفة، وبإيراد مبتدأ فيها لإفادة قصر صفة الإلهية في السماء وفي الأرض على الله تعالى لا يشاركه في ذلك غيره، لأن إيراد المسند إليه معرفة والمسند معرفة طريق من طرق القصر‏.‏ فالمعنى وهو لا غيره الذي في السماء إله وفي الأرض إله، وصلة ‏{‏الذي‏}‏ جملة اسمية حذف صدرها، وصَدرُها ضمير يعود إلى معاد ضمير ‏{‏وهو‏}‏ وحذْفُ صدر الصلة استعمال حسن إذا طالت الصلة كما هنا‏.‏ والتقدير‏:‏ الذي هو في السماء إله‏.‏

والمجروران يتعلقان ب ‏{‏إله‏}‏ باعتبار ما يتضمنه من معنى المعبود لأنه مشتق من ألَهَ، إذا عبَد فشابه المشتق‏.‏ وصح تعلق المجْرور به فتعلقه بلفظ إله كتعلق الظرف بغِربال وأقوى من تعلق المجرور بكانون في قول الحطيئة يهجو أمه من أبيات‏:‏

أغِرْبالاً إذا استُودِعْتتِ سِرًّا *** وكَانُوناً على المتحدّثينا

‏{‏إله وَهُوَ الحكيم‏}‏‏.‏

بعد أن وصف الله بالتفرد بالإلهية أُتبع بوصفه ب ‏{‏الحكيم العليم‏}‏ تدقيقاً للدليل الذي في قوله‏:‏ ‏{‏وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله‏}‏، حيث دل على نفي إلهية غيره في السماء والأرض واختصاصه بالإلهية فيهما لما في صيغة القصر من إثبات الوصف له ونفيه عمن سواه، فكان قوله‏:‏ ‏{‏وهو الحكيم العليم‏}‏ تتميماً للدليل واستدلالاً عليه، ولذلك سميناه تدقيقاً إذ التدقيق في الاصطلاح هو ذكر الشيء بدليللِ دليله وأما التحقيق فذكرُ الشيء بدليله لأن الموصوف بتمام الحكمة وكمال العلم مستغن عما سواه فلا يحتاج إلى ولد ولا إلى بنت ولا إلى شريك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏85‏]‏

‏{‏وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏85‏)‏‏}‏

عطف على ‏{‏سبحان ربّ السموات والأرض‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 82‏]‏، قصد منه إتباع إنشاء التنزيه بإنشاء الثناء والتمجيد‏.‏

و ‏{‏تبارك‏}‏ خبر مستعمل في إنشاء المدح لأن معنى ‏{‏تبارك‏}‏ كان متصفاً بالبَركة اتصافاً قوياً لما يدل عليه صيغة تفَاعَل من قوة حصول المشتق منه لأن أصلها أن تدل على صدور فعل من فاعلين مثل‏:‏ تقاتل وتمارى، فاستعملت في مجرد تكرر الفعل، وذلك مثل‏:‏ تسامى وتعالى‏.‏

والبركَة‏:‏ الزيادة في الخير‏.‏

وقد ذكر مع التنزيه أنه رب السماوات والأرض لاقتضاء الربوبية التنزيهَ عن الولد المسوق الكلام لنفيه، وعن الشريك المشمول لقوله‏:‏ ‏{‏عما يصفون‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 82‏]‏، وذُكر مع التبريك والتعظيم أن له مُلك السماوات والأرض لمناسبة الملك للعظمة وفيْضضِ الخير، فلا يَرِيبك أنَّ ‏{‏ربِّ السماوات والأرض‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 82‏]‏ مغننٍ عن ‏{‏الذي له مُلك السماوات والأرض‏}‏، لأن غرض القرآن التذكير وأغراضُ التذكير تخالف أغراض الاستدلال والجدل، فإن التذكير يلائم التنبيه على مختلف الصفات باختلاف الاعتبارات والتعرض للاستمداد من الفضل‏.‏ ثم إنّ صيغة ‏{‏تبارك‏}‏ تدل على أن البركة ذاتية لله تعالى فيقتضي استغناءه عن الزيادة باتخَاذِ الولد واتخاذِ الشريك، فبهذا الاعتبار كانت هذه الجملة استدلالاً آخر تابعاً لدليل قوله‏:‏ ‏{‏سبحان رب السموات والأرض رب العرش عما يصفون‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 82‏]‏‏.‏

وقد تأكد انفراده بربوبية أعظم الموجودات ثلاث مرات بقوله‏:‏ ‏{‏رب العرش‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 82‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 84‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏الذي له ملك السموات والأرض وما بينهما‏}‏‏.‏

فكم من خصائص ونكت تنهالُ على المتدبر من آيات القرآن التي لا يحيط بها إلا الحكيم العليم‏.‏

ولما كان قوله‏:‏ ‏{‏الذي له ملك السموات والأرض‏}‏ مفيداً التصرف في هذه العوالم مدة وجودها ووجودِ ما بينها أردفه بقوله‏:‏ ‏{‏وعنده علم الساعة وإليه ترجعون‏}‏ للدلالة على أن له مع ملك العوالم الفانية مُلك العوالم الباقية، وأنه المتصرف في تلك العوالم بما فيها بالتنعيم والتعذيب، فكان قوله‏:‏ ‏{‏وعنده علم الساعة‏}‏ توطئة لقوله‏:‏ ‏{‏وإليه ترجعون‏}‏ وإدماجاً لإثبات البعث‏.‏ وتقديم المجرور في ‏{‏إليه ترجعون‏}‏ لقصد التقوّي إذ ليس المخاطبون بمثبتين رُجْعَى إلى غيره فإنهم لا يؤمنون بالبعث أصلاً‏.‏

وأما قولهم للأصنام ‏{‏هؤلاء شفعاؤنا عند الله‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 18‏]‏ فمرادهم أنهم شفعاء لهم في الدنيا أو هو على سبيل الجدل ولذلك أتبع بقوله‏:‏ ‏{‏ولا يملك الذين يَدْعُون من دونه الشفاعة‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 86‏]‏‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏ترجعون‏}‏ بالفوقية على الالتفات من الغيبة إلى الخطاب للمباشرة بالتهديد‏.‏ وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي بالتحتية تبعاً لأسلوب الضمائر التي قبله، وهم متفقون على أنه مبني للمجهول‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏86‏]‏

‏{‏وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ‏(‏86‏)‏‏}‏

لما أنبأهم أن لله ملكَ السماوات والأرض وما بينهما وعنده علم الساعة أعلمهم أن ما يعبدونه من دون الله لا يقدر على أن يشفع لهم في الدنيا إبطالاً لزعمهم أنهم شفعاؤهم عند الله‏.‏ ولما كان من جملة من عُبدوا دون الله الملائكة استثناهم بقوله‏:‏ ‏{‏إلا من شهد بالحق وهم يعلمون‏}‏ أي فهم يشفعون، وهذا في معنى قوله‏:‏ ‏{‏وَقَالُوا اتخذ الرحمن ولداً سبحانه بل عبادٌ مكرمون‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 26‏]‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏ولا يشفعون إلا لمن ارتضى‏}‏ وقد مضى في سورة الأنبياء ‏(‏28‏)‏‏.‏

ووصف الشفعاء بأنهم شَهِدوا بالحق وهم يعلمون أي وهم يعلمون حال من يستحق الشفاعة‏.‏ فقد علم أنهم لا يشفعون للذين خالف حالهم حال من يشهد لله بالحق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏87‏]‏

‏{‏وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ‏(‏87‏)‏‏}‏

بعد أن أمعن في إبطال أن يكون إله غير الله بما سِيق من التفصيلات، جاء هنا بكلمة جامعة لإبطال زعمهم إلهية غير الله بقوله‏:‏ ‏{‏ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله‏}‏ أي سألتهم سؤال تقرير عمن خلقهم فإنه يُقرّون بأن الله خلقهم، وهذا معلوم من حال المشركين كقول ضِمام بن ثعلبة للنبيء صلى الله عليه وسلم «أسألك بربّك وربّ من قبلك آلله أرسلك» ولأجل ذلك أُكِّد إنهم يقرون لله بأنه الخالق فقال‏:‏ ‏{‏ليقولن الله‏}‏، وذلك كاففٍ في سفاهة رأيهم إذ كيف يكون إلها من لم يخلق، قال تعالى‏:‏ ‏{‏أفمن يخلق كمَن لا يخلق أفلا تذكرون‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 17‏]‏‏.‏

والخطاب في قوله‏:‏ ‏{‏سألتهم‏}‏ للنبيء صلى الله عليه وسلم ويجوز أن يكون لغير معيّن، أي إن سألهم من يتأتى منه أن يسأل‏.‏ وفرع على هذا التقرير والإقرار الإنكارُ والتعجيبُ من انصرافهم من عبادة الله إلى عبادة آلهة أخرى بقوله‏:‏ ‏{‏فأنى يؤفكون‏}‏‏.‏

و ‏(‏أنّى‏)‏ اسم استفهام عن المكان فمحله نصب على الظرفية، أي إلى أيِّ مكان يصرفون‏.‏ و‏{‏يؤفكون‏}‏ يُصْرَفون‏:‏ يقال‏:‏ أفكَه عن كذا، يأفِكه من بابْ ضَرب، إذا صرفه عنه، وبُني للمجهول إذ لم يصرفهم صارف ولكن صرفوا أنفسهم عن عبادة خالقهم، فقوله‏:‏ ‏{‏فأنى يؤفكون‏}‏ هو كقول العرب‏:‏ أين يُذهَب بك، أي أين تذهب بنفسك إذ لا يريدون أن ذاهباً ذهب به يسألونه عنه ولكن المراد‏:‏ أنه لم يذهب به أحد وإنما ذهب بنفسه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏88‏]‏

‏{‏وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏88‏)‏‏}‏

القيل مصدر قَال، والأظهر أنه اسم مراد به المفعول، أي المقول مثل الذِبح وأصله‏:‏ قِوْل، بكسر القاف وسكون الواو‏.‏ والمعنى‏:‏ ومقوله‏.‏

والضمير المضاف إليه‏:‏ ‏(‏قيل‏)‏ ضمير الرسول صلى الله عليه وسلم بقرينة سياق الاستدلال وَالحجاججِ من قوله‏:‏ ‏{‏قل إن كان للرحمن ولدٌ فأنا أول العابدين‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 81‏]‏، وبقرينة قوله‏:‏ ‏{‏يا رب‏}‏ وبقرينة أنه قال‏:‏ ‏{‏إن هؤلاء قوم لا يؤمنون‏}‏ وبقرينة إجابته بقوله‏:‏ ‏{‏فاصفح عنهم وقلْ سلام‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 89‏]‏، والأولى أن يكون ضمير الغائب التفاتاً عن الخطاب في قوله‏:‏ ‏{‏ولئن سألتهم من خلقهم‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 87‏]‏، فإنه بعد ما مضى من المحاجّة ومن حكاية إقرارهم بأن الله الذي خلقهم، ثم إنهم لم يتزحزحوا عن الكفر قيد أنملة، حصل اليأس للرسول من إيمانهم فقال‏:‏ ‏{‏يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون‏}‏ التجاء إلى الله فيهم وتفويضاً إليه ليجري حكمه عليهم‏.‏

وهذا من استعمال الخبر في التحسر أو الشكاية وهو خبر بمعنى الإنشاء مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقال الرسول يا ربّ إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 30‏]‏، أي لم يعملوا به فلم يؤمنوا، ويؤيّد هذا تفريع ‏{‏فاصفَح عنهم‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 89‏]‏، ففي ضمير الغيبة التفات لأن الكلام كان جارياً على أسلوب الخطاب من قوله‏:‏ ‏{‏ولئن سألتهم من خلقهم‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 87‏]‏ فمقتضى الظاهر‏:‏ وقولَكَ‏:‏ يا ربّ الخ‏.‏ ويحسِّن هذا الالتفات أنه حكاية لشيء في نفس الرّسول فجعل الرسول بمنزلة الغائب لإظهار أن الله لا يهمل نداءه وشكواه على حدّ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عبس وتولّى‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 1‏]‏‏.‏ وإضافة القيل إلى ضمير الرسول مشعرة بأنه تكرر منه وعرف به عند ربّه، أي عُرف بهذا وبما في معناه من نحو ‏{‏يا ربّ إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً وقوله‏:‏ ‏{‏حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه مَتَى نصر الله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 214‏]‏‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏وقيلَه‏}‏ بنصب اللام على اعتبار أنه مصدر نُصب على أنه مفعول مطلق بَدل من فعله‏.‏

والتقدير‏:‏ وقال الرسول قيلَه، والجملة معطوفة على جملة ‏{‏ولئن سألتهم من خلقهم‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 87‏]‏ أو على جملة ‏{‏فأنى يؤفكون‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 87‏]‏، أي وقال الرسول حينئذٍ يا ربّ الخ‏.‏ ونظيره قول كعب بن زهير‏:‏

تمشي الوشاة جنابيْها وقيلَهم *** إنك يا بنَ أبي سُلْمى لمقتول

على رواية ‏(‏قيلَهم‏)‏ ونصبه، أي ويقولون‏:‏ قيلهم وهي رواية الأصمعي‏.‏

ويجوز أن يكون النصب على المفعول به لقوله‏:‏ ‏{‏لا نَسْمَع‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 80‏]‏، والتقدير‏:‏ بلى ونعلم قِيلَه وهذا اختيار الفراء والأخفش، وقال المبرد والزجاج‏:‏ هو منصوب بفعل مقدر دل عليه قوله‏:‏ ‏{‏وعنِده علم الساعة‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 85‏]‏ أي ويعلم قيله‏.‏

وقرأ عاصم وحمزة بجرّ لام ‏(‏قيلِه‏)‏ ويجوز في جرّه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن يكون عطفاً على ‏{‏الساعة في قوله‏:‏ ‏{‏وعنده علم الساعةِ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 85‏]‏ أي وعلمُ قيللِ الرسول‏:‏ يا ربّ، وهو على هذا وعد للرسول بالنصر وتهديد لهم بالانتقام‏.‏

وثانيهما‏:‏ أنْ تكون الواو للقسم ويكون جواب القسم جملة ‏{‏إن هؤلاء قوم لا يؤمنون‏}‏ على أن الله أقسم بقول الرسول‏:‏ يا ربّ، تعظيماً للرسول ولقيله الذي هو تفويض للرب وثقة به‏.‏

ومقول ‏{‏قيله‏}‏ هُو ‏{‏يا رب‏}‏ فقط، أي أُقسم بندَاء الرسول ربَّه نداءَ مضطر‏.‏

وذكر ابن هشام في «شرح الكَعبية» عن أبي حاتم السجستاني‏:‏ أن مَن جرّ فقوله بظن وتخليط، وأنكره عليه ابن هشام لإمكان تخريج الجرّ على وجه صحيح‏.‏

وقد حذف بعد النداء ما نودي لأجله مما دل عليه مقام من أعيته الحيلة فيهم ففوض أمره إلى ربّه فأقسم الله بتلك الكلمة على أنهم لا يؤمنون ولكن الله سينتقم منهم فلذلك قال‏:‏ ‏{‏فسوف تعلمون‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 89‏]‏‏.‏

والإشارة ب ‏{‏هؤلاء‏}‏ إلى المشركين من أهل مكة كما هي عادة القرآن غالباً ووصفهم بأنهم قوم لا يؤمنون، أدل على تمكن عدم الإيمان منهم مِن أن يقول‏:‏ هؤلاء لا يؤمنون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏89‏]‏

‏{‏فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ‏(‏89‏)‏‏}‏

الفاء فصيحة لأنها أفصحت عن مقدر، أي إذْ قلتَ ذلك القيل وفوضتَ الأمر إلينا فسأتَولى الانتصاف منهم فاصفح عنهم، أي أعرض عنهم ولا تحزن لهم وقل لهم إن جادلوك‏:‏ ‏{‏سلامٌ‏}‏، أي سلمنا في المجادلة وتركناها‏.‏ وأصل ‏{‏سلام‏}‏ مصدر جاء بدلاً من فعله‏.‏ فأصله النصب، وعدل إلى رفعه لقصد الدلالة على الثبات كما تقدم في قوله‏:‏ ‏{‏الحمد لله ربّ العالمين‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 2‏]‏‏.‏

يقال‏:‏ صَفح يصفح من باب منع بمعنى‏:‏ أعرضَ وترك، وتقدم في أول السورة ‏{‏أفنضربُ عنكم الذكر صفحاً‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 5‏]‏ ولكن الصفح المأمور به هنا غير الصفح المُنكَر وقوعُه في قوله‏:‏ ‏{‏أفنضرب عنكم الذكر صَفحاً‏.‏ وفرع عليه فسوف تعلمون‏}‏ تهديداً لهم ووعيداً‏.‏ وحذف مفعول ‏{‏تعلمون‏}‏ للتهويل لتذهب نفوسهم كل مذهب ممكن‏.‏ وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر ورَوْح عن يعقوب ‏{‏تعلمون‏}‏ بالمثناة الفوقية على أن ‏{‏فسوف تعلمون‏}‏ مما أمر الرسول بأن يقوله لهم، أي وقل سوف تعلمون‏.‏ وقرأه الجمهور بياء تحتية على أنه وعد من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بأنه منتقم من المكذبين‏.‏

وما في هذه الآية من الأمر بالإعراض والتسليم في الجدال والوعيد ما يؤذن بانتهاء الكلام في هذه السورة وهو من براعة المقطع‏.‏